فصل: تفسير الآيات رقم (11- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين جَاءُو بالإفك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ نزلت في شأن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها ففي «البخاريِّ» في غزوة بَنِي المُصْطَلِقِ عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ وأَنْزَلَ اللّهُ العَشْرَ الآياتِ في بَرَاءَتِي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين جَاءُو بالإفك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات‏:‏ والإفك‏:‏ الزُّورُ والكذب، وحديث الإفك في «البخاريِّ» و«مسلم» وغيرهمات مُسْتَوْعَبٌ، والعُصْبَةُ‏:‏ الجماعة من العشرة إلى الأربعين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبُوهُ‏}‏ خطاب لِكُلِّ مَنْ ساءه ذلك من المؤمنين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ أَنَّه تَبْرِئَةٌ في الدنيا وترفيعٌ من اللّه تعالى في أنْ نَزَّلَ وَحْيَهُ بالبراءة من ذلك، وأجرٌ جزيلٌ في الآخرة، وموعظةٌ للمؤمنين في غابر الدهر، و‏{‏اكتسب‏}‏‏:‏ مستعملة في المآثم، والإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي تَوَلَّى كِبْرَهُ‏}‏ هي إلى‏:‏ عبد اللّه بن أُبَيِّ ابن سلولَ وغيره من المنافقين، وكِبْرَهُ‏:‏ مصدر كَبُرَ الشيء وعَظُمَ ولكنِ استعملتِ العربُ ضَمَّ الكاف في السِّنِّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الخطاب للمؤمنين حاشا مَنْ تولى كِبْرَهُ، وفي هذا عتابٌ للمؤمنين، أي‏:‏ كان الإنكارُ واجباً عليهم، ويقيس فُضَلاَءُ المؤمنين الأمر على أنفسهم، فإذا كان ذلك يَبْعُدُ فيهم فَأُمُّ المُؤمنين أَبْعَدُ، لِفَضْلِهَا، وَوَقَعَ هذا النَّظَرُ الشديد من أبي أَيُّوبَ وامرأته؛ وذلك أَنَّهُ دَخَلَ عليها فقالت له‏:‏ «يا أبا أيوبَ، أَسَمِعْتَ ما قيل‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، وذلك الكذبُ؛ أكنتِ أنت يا أُمَّ أَيُّوبَ، تفعلين ذلك‏؟‏ فقالت‏:‏ لا، والله، قال‏:‏ فعائشة واللّه أفضلُ منك، قالتْ أُمُّ أيوب‏:‏ نعم» فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب اللّه فيه المؤمنين؛ إذ لم يفعله جميعهم، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لَّوْلاَ جَاءُو‏}‏ للذين تولوا كبره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 18‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدنيا والأخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ هذا عتاب من اللّه تعالى، بليغ في تعاطيهم هذا الحديثَ وإنْ لم يكن المُخْبِرُ والمُخْبَرُ مُصَدِّقِينَ، ولكنَّ نفس التعاطي والتلقي من لسانَ إلى لسان والإفاضة في الحديث هو الذي وقع العتابُ فيه، وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي اللّه عنها وهي أعلم الناس بهذا الأمر‏:‏ «إذْ تَلِقُونَهُ» بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب‏:‏ وَلَقَ الرجُل وَلْقاً إذا كَذِبَ، وحكى الطبريُّ‏:‏ أن هذه اللفظة مأخوذةٌ من‏:‏ الوَلْقِ الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء؛ يقال‏:‏ وَلَقَ في سيره إذ أسرع، والضمير في‏:‏ ‏{‏تَحْسَبُونَهُ‏}‏ للحديث والخوضِ فيه والإذاعةِ له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً للَّه أَنْ يقع هذا من زوج نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم وحقيقة البُهْتَانِ‏:‏ أَنْ يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة‏:‏ أَنْ يقال في الإنسان ما فيه، ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين ءَامَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين، وعذابهم الأليم في الدنيا‏:‏ الحدودُ، وفي الآخرة‏:‏ النار، وقالت فرقة‏:‏ الآية عامَّةٌ في كُلِّ قاذف، وهذا هو الأظهر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ معناه‏:‏ يعلم البريءَ من المُذْنِبِ، ويعلم سائر الأمور، وجواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ أيضاً محذوف تقديره‏:‏ لَفَضَحَكُم بذنوبكم، أَو لَعَذَّبَكُم ونحوه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ خطوات جمع خُطْوَة، وهي ما بين القدمين في المشي، فكأنَّ المعنى‏:‏ لا تمشوا في سُبُلِهِ وطُرُقِهِ‏.‏

قلت‏:‏ وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً‏}‏‏:‏ ما يردع العاقلَ عن الاشتغال بغيره، ويُوجِبُ له الاهتمامَ بإصلاح نفسه قبل هجوم مَنِيَّتِهِ وحُلُولِ رَمْسِهِ، وحَدَّثَ أَبو عمر في «التمهيد» بسنده عن إسماعيل بن كثير قال‏:‏ سمعت مجاهداً يقول‏:‏ «إنَّ الملائكة مع ابن آدم، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير، قالت الملائكة‏:‏ ولك مِثْلُهُ، وإذا ذكره بشرٍّ، قالتِ الملائكةُ‏:‏ ابنَ آدمَ المستور عورته، أَرْبِعْ على نفسك، واحْمَدِ اللّه الذي يستر عورتك» انتهى ورُوِّينَا في «سنن أبي داودَ» عن سهل بن مُعَاذِ بن أنس الجُهَنِيِّ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ حَمَى مُؤْمِناً مِنْ مُنَافِقٍ أَرَاهُ قالَ‏:‏ بَعَثَ اللّهُ مَلَكاً يَحْمِي لَحْمَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِماً بِشَيْءٍ يُرِيدُ بِهِ شَيْنَهُ، حَبَسَهُ اللّهُ عز وجل عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ ‏"‏ وروينا أيضاً عن أَبي داودَ بسنده عن جابرِ بن عبد اللّه وأبي طلحةَ بن سهل الأنصارِيَّين أنَّهما قالا‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ امرئ يَخْذُلُ امرءاً مُسْلِماً في مَوْضِعٌ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلاَّ خَذَلَهُ اللّهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِع يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلاَّ نَصَرَهُ اللّهُ في مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ ‏"‏، انتهى، ثم ذكر تعالى أَنَّه يزكى مَنْ شاء مِمَّنْ سبقت له السعادة، وكان عمله الصالح أمارة على سبق السعادة له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المشهورُ من الروايات أَنَّ هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر رضي اللّه عنه ومِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وكان من قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه، لمسكَنَتِهِ، فلما وقع أمر الإفك بلغ أبا بكر أَنَّه‏:‏ وقع مِسْطَحٌ مع مَنْ وقع؛ فحلف أبو بكر‏:‏ لا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبداً، فجاء مِسْطَحٌ مُعْتَذِراً وقال‏:‏ إنَّما كُنْتُ أسمع ولا أقول، فنزلتِ الآية، والفضل‏:‏ الزيادة في الدِّينِ، والسعة هنا‏:‏ هي المال، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ كما تحبون عفوَ اللّه لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، فيروى أنَّ أبا بكر قال‏:‏ بلى، إنِّي أُحِبُّ أَنْ يغفر اللّه لي، ورَجَّعَ إلى مِسْطَحٍ ما كان يُجْرِي عليه من النفقة والإحسان‏.‏

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الحنث إذا رآه الإنسان خيراً هو أولى من البر، ولقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فَرَأَى غَيْرُهَا خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ‏"‏ انتهى‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ هذه أرجى، آيةٌ في كتاب اللّه عز وجل من حيث لطفه سبحانه بالقَذَفَةِ العُصَاةِ بهذا اللفظ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وإنَّما تعطى الآية تفضلاً من اللّه تعالى في الدنيا، وإنَّما الرجاءُ في الآخرة، أما أنَّ الرجاءَ في هذه الآية بقياسٍ، أي‏:‏ إذا أُمِرَ أُولِي الفضل والسعة بالعفو، فطرد هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا رَبَّ غيره، وإنَّما آيات الرجاء‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وسمعت أبي رحمه اللّه يقول‏:‏ أرجى آيةٌ في كتاب اللّه عندي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أرجى آية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 19‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ‏:‏ قال ابن جبير‏:‏ هذه الآية خاصَّةٌ في رُمَاةِ عائشة، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ بل ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمكانهن من الدِّينِ ولم يقرن بآخر الآية توبة‏.‏

قال * ع *‏:‏ وقاذف غَيْرهِنَّ له اسم الفسق، وذكرت له التوبةُ، ولعن الدنيا‏:‏ الإِبعاد، وضربُ الحَدِّ، والعامل في قوله‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ فعل مُضمَرٌ تقديره‏:‏ يُعَذَّبُونَ يومَ أو نحو هذا، والدين في هذه الآية‏:‏ الجزاء، وفي مصحف ابن مسعود وأُبَيٍّ‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ الحَقُّ دِينَهُمْ‏}‏ بتقديم الصفة على الموصوف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين‏}‏ يُقِوِّي قولَ مَنْ ذهب‏:‏ أَنَّ الآية في المنافقين عَبْدِ اللّه بن أُبيِّ وغيرِهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ الموصوف بالخُبْثِ والطيب‏:‏ الأقوال والأفعال، وقال ابن زيد‏:‏ الموصوفُ بالخُبْث والطيب، النساءُ والرجال، ومعنى هذا التفريقَ بَيْنَ حكم ابن أُبَيٍّ وأشباهِهِ وبين حكم النبي صلى الله عليه وسلم وفضلاءِ أصحابه وأَمَّتِهِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏ إشارة إلى الطيبين المذكورين، وقيل‏:‏ الإشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى عائشة- رضي اللّه عنها- ومَنْ في معناها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏ سبب هذه الآية فيما روى الطبريُّ‏:‏ أَنَّ امرأة من الأنصار قالت‏:‏ يا رسولَ اللّه، إنِّي أَكونُ في منزلي على الحال الَّتي لاَ أُحِبُّ أَنْ يراني أحدٌ عليها، لاَ وَالَدٌ ولا وَلَد، وإنَّهُ لا يزالُ يدخلُ عليَّ رجلٌ مِنْ أهلي، وأنا على تلك الحال؛ فنزلت هذه الآية، ثم هي عامَّةٌ في الأُمَّةِ غَابِرَ الدهر، وبيت الإنسان‏:‏ هو الذي لا أحد معه فيه، أوِ البيتَ الذي فيه زوجته أو أَمَتُهُ، وما عدا هذا فهو غير بيته، و‏{‏تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏ معناه‏:‏ تستعملوا مَنْ في البيت، وتستبصروا تقول‏:‏ آنستُ‏:‏ إذا علمَتُ عن حِسٍّ وإذا أبصرتُ؛ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏

و «استأنس» وزنه‏:‏ استفعل، فكأنَّ المعنى في ‏{‏تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏‏:‏ تطلبوا أنْ تعلموا ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله، فذلك يكون بالاستئذان على من فيه، أو بأنْ يتنحنح ويُشْعِرُ بنفسه بأي وجه أمكنه، ويَتَأَتَّى قَدْرَ ما يتحفظ منه، ويدخل إثر ذلك‏.‏

وذهب الطبريُّ في‏:‏ ‏{‏تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏ إلى أَنَّه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بأنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه، وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا أنْ قد شُعِرَ بكم‏.‏

قال * ع *‏:‏ وتصريف الفعل يأْبَى أَنْ يكون من أنس، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس‏:‏ «حتى‏:‏ تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا» وصورة الاستئذان أَنْ يقول الإنسان‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏ فإن أُذِنَ له دَخَل، وإنْ أُمِرَ بالرجوع انصرف، وإنْ سُكِتَ عنه استأذن ثلاثاً ثم ينصرف، جاءت في هذا كله آثار، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏تَجِدُواْ فِيهَا‏}‏‏:‏ للبيوت التي هي بيوتُ الغير، وأسند الطبريُّ عن قتادة أنه قال‏:‏ قال رجل من المهاجرين‏:‏ لقد طلبتُ عمري كُلَّه هذه الآيةَ فما أدركتها أن أستأذنَ على بعض إخواني فيقول‏:‏ لي ارجع، فأرجع وأنما مُغْتَبِطٌ؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ أَزْكَى لَكُم‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ تَوَعُّدٌ لأهل التجسُّسِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أباح سبحانه في هذه الآية رفعَ الاستئْذان في كُلِّ بيت لا يسكنه أحد؛ لأَنَّ العِلَّةَ في الاستئذان خوفُ الكشفة على المُحَرِّمَاتِ، فإذا زالت العِلَّةُ زال الحكم، وباقي الآية بَيِّنٌ ظاهر التوعد، وعن مالك رحمه اللّه‏:‏ أَنه بلغه أَنَّهُ كان يُسْتَحَبُّ إذا دخل البيتَ غيرَ المسكون أَنْ يقول، الذي يدخله‏:‏ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللّهِ الصَّالِحِينَ، انتهى، أخرجه في «المُوَطَّإِ»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏ أظهر ما في ‏{‏مِنْ‏}‏ أَنْ تكون للتبعيض، لأَنَّ أول نظرة لا يملكها الإنسانُ؛ وإنَّما يَغُضُّ فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج؛ إذ حفظُها عامٌّ لها، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذيرُ منه، وحفظُ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا يحل‏.‏

قلت‏:‏ النواظر صوارمُ مشهورة فاغمدها في غِمْدِ الغَضِّ والحياء مِنْ نظر المولى وإلاَّ جرحك بها عَدُوُّ الهوى، لا ترسلْ بريد النظر فيجلبَ لقلبك رَدِيءَ الفكر، غُضُّ البصرِ يُورِثُ القلب نوراً، وإطلاقُه يَقْدَحُ في القلب ناراً، انتهى من «الكلم الفارقية في الحكم الحقيقية»‏.‏

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أزكى لَهُمْ‏}‏ يريد‏:‏ أطهر وأنمى، يعني‏:‏ إذا غَضَّ بصره كان أطهرَ له من الذنوب وأَنمى لعمله في الطاعة‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ ومِنْ غَضَّ، البصر‏:‏ كَفُّ التطلع إلى المُبَاحَاتِ من زينة الدنيا وجمالِها؛ كما قال اللّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏‏.‏ يريد ما عند اللّه تعالى، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أمر اللّه تعالى النساء في هذه الآية بِغَضِّ البصر عن كل ما يُكْرَهُ من جهة الشرع النظرُ إليه، وفي حديث أُمِّ سلمةَ قالت‏:‏ كُنْتُ أنا وعائشةُ عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ احْتَجِبْنَ، فَقُلْنَ‏:‏ إنَّهُ أعمى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا ‏"‏ و‏{‏من‏}‏ الكلام فيها كالتي قبلها‏.‏

قال ابن العربي في «أحكامه»‏:‏ وكما لا يَحِلُّ للرجل أن ينظر إلى المرأة، لا يحل للمرأة أَنْ تنظر إلى الرجلِ، فإنَّ عَلاَقَتَهُ بها كعلاقتها به، وقصدَه منها كقصدها منه، ثم استدل بحديث أُمِّ سلمة المتقدم، انتهى‏.‏ وحفظ الفرج يَعُمُّ الفواحش، وسترَ العورة، وما دون ذلك مِمَّا فيه حفظ، ثم أَمر تعالى بأَلاَّ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ ما يظهر من الزينة؛ قال ابن مسعود‏:‏ ظاهر الزينة‏:‏ هو الثياب‏.‏

وقال ابن جبير وغيره‏:‏ الوجه والكَفَّانِ والثيابُ‏.‏

وقيل‏:‏ غير هذا‏.‏

قال‏:‏ زينتها * ع *‏:‏ ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أَنَّ المرأة مأمورة بأَلاَّ تبديَ، وأَنْ تجتهدَ في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كُلِّ ما غلبها، فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بُدَّ منه أو إصلاح شأن، فما ظهر على هذا الوجه فهو المَعفُوُّ عنه، وذكر أبو عمر‏:‏ الخلاف في تفسير الآية كما تقدم؛ قال ورُوِيَ عن أبي هريرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ قال‏:‏ القُلْبُ والفتخة‏.‏

قال جرير بن حازم‏:‏ القُلْبُ‏:‏ السِّوَارُ، والفتخة‏:‏ الخاتم، انتهى من «التمهيد»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ‏}‏‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ الجيب هو الطَّوْقُ، والخمار‏:‏ هو المِقْنَعَة انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ سبب الآية أَنَّ النساء كُنَّ في ذلك الزمان إذا غَطَّيْنَ رؤوسهنَّ بالأخمرة سَدَلْنَهَا من وراء الظهر؛ فيبقى النَّحْرُ والعُنُقُ والأُذُنَانِ لا سِتْرَ على ذلك، فأمر اللّه تعالى بِلَيِّ الخمار على الجيوب، وهَيْئَةُ ذلك يستر جميعَ ما ذكرناه، وقالت عائشة- رضي اللّه عنها- رُحِمَ اللّهُ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ؛ لمَّا نزلت هذه الآية عَمَدْنَ إلى أكثف المروط فشققنها أخمرةً، وضربن بها على الجيوب‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَو نِسائِهن‏}‏ يعني جميع المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين، وكتب عمر إلى أبي عبيدةَ بن الجراح أَنْ يمنع نساءَ أهل الذِّمَّةِ أَنْ يدخلنَ الحَمَّامَ مع نساء المسلمين فامتثل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن‏}‏ يدخل فيه الإماءُ الكتابِيَّاتُ والعبيد‏.‏

وقال ابن عباس وجماعة‏:‏ لا يدخل العبد على سَيِّدته فيرى شعرها إلاَّ أن يكون وغْداً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوِ التابعين‏}‏ يريد الأتباع لِيُطْعَمُوا، وهم فُسُولُ الرجال الذين لا إرْبَةَ لهم في الوَطْءِ، ويدخل في هذه الصنيفة‏:‏ المَجْبُوبُ، والشيخ الفاني، وبعضُ المَعْتُوهِينَ، والذي لا إرْبَةَ له من الرجال قليلٌ، والإربة‏:‏ الحاجة إلى الوطء، والطفل اسم جنس، ويقال‏:‏ طفل ما لم يُراهِقِ الحُلُمِ، و‏{‏يَظْهَرُواْ‏}‏ معناه‏:‏ يَطَّلِعُوا بالوطء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قيل‏:‏ سببها أَنَّ امرأة مَرَّتْ على قوم فضربت برجلها الأرض فَصَوَّتَ الخَلْخَالُ، وسماعُ صوت هذه الزينة أَشَدُّ تحريكاً للشهوة من إبدائها؛ ذكره الزَّجَّاجُ، ثم أمر سبحانه بالتوبة مُطْلَقَةً عَامَّةٍ من كل شيء صغير وكبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ‏}‏ الأَيِّمُ‏:‏ مَنْ لا زوجةَ له أو لا زوجَ لها؛ فالأَيِّمُ‏:‏ يقال للرجل والمرأة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والصالحين‏}‏ يريد‏:‏ للنكاح، وهذا الأمر بالنكاح يختلف بحسب شَخْصٍ شخْصٍ، ففي نازلة‏:‏ يُتَصَوَّرُ وجوبُه، وفي نازلة‏:‏ النَّدْبُ وغيرُ ذلك حسبما هو مذكور في كتب الفقه؛ قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ‏}‏ الأظهر فيه‏:‏ أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى، وذلك بيد السادَةِ في العبيد والإماء؛ كما هو في الأحرار بيد الأولياء، انتهى‏.‏ ثم وعد تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين؛ طَلَبَ رضا اللّه عنهم، واعتصاماً من معاصيه، ثم أمر تعالى كُلَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عليه النكاحُ أَنْ يستعفف حتى يُغْنِيَهُمُ اللّه من فضله، إذِ الغالب من موانع النكاح عَدَمُ المال، فوعد سبحانه المُتَعَفِّفُ بالغنى‏.‏ والمكاتبة‏:‏ مفاعلة من حيث يَكْتُبُ هذا على نفسه وهذا على نفسه، ومذهب مالك‏:‏ أَنَّ الأَمرَ بالكتابة هو على الندب‏.‏

وقال عطاء‏:‏ ذلك واجب، وهو ظاهرُ مذهب عمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِن عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً‏}‏ قالت فرقة‏:‏ الخير هنا المال‏.‏

وقال مالك‏:‏ إنَّه ليقال‏:‏ القُوَّةُ والأداء، وقال عبَيْدَةُ السَّلْمانيَّ‏:‏ الخير هو‏:‏ الصلاح في الدِّين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَءَاتُوهُم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هو أمر لكل مُكَاتِبِ أنْ يضع عن العبد من مال كتابته، ورأى مالك هذا الأمر على النَّدْبِ، ولم يَرَ لقدر الوضيعة حَدّاً، واستحسن عليُّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن يُوضَعَ عنه الرُّبُعُ، وقيل‏:‏ الثُّلُثُ، وقيل‏:‏ العشر، ورأى عمر أَنْ يكون ذلك من أَوَّلِ نُجُومِهِ؛ مبادرةً إلى الخير، وخوفَ أَلاَّ يدركَ آخرها، ورأى مالك وغيره‏:‏ أَنْ يكونَ الوضعُ من آخر نَجْمٍ؛ وعِلَّةُ ذلك أَنَّه‏:‏ ربما عجز العبدُ فرجع هو وماله إلى السَّيِّدِ، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر أَنَّ لا يُعَدُّ رجوعاً كما لو رجع إليه بالميراث، ورأى الشافعيُّ وغيره‏:‏ أَنَّ الوضيعة واجبةُ يُحكَمُ بها‏.‏

وقال الحسن وغيره‏:‏ الخطاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وءَاتُوهُم‏}‏‏:‏ للناس أجمعين في أَنْ يتصدَّقُوا على المكاتَبِينَ‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ إنَّما الخطاب لولاة الأمور‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏ الآية‏:‏ رُوِيَ‏:‏ أَنَّ سبب الآية هو أَن عبد اللّه بن أُبَيِّ ابن سلولَ كانت له أَمَةٌ، فكان يأمرُها بالزنا والكَسْبِ به، فشكَتْ ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية فيهِ، وفيمن فَعَلَ فعلَه من المنافقين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏ راجع إلى الفتيات؛ وذلك أَنَّ الفتاةَ إذا أَرادت التَّحَصُّنَ فحينئذ يمكن ويُتَصَوَّرُ أَنْ يكونَ السيد مُكْرِهاً، ويمكن أن ينهى عن الإكراه، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصنَ فلا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ للسيد‏:‏ لا تُكْرِهها‏:‏ لأَنَّ الإكراه لا يُتَصوَّرُ فيها وهي مريدة للفساد، فهذا أمر في سادة وفتياتٍ حالُهم هذه، وذهب هذا النظرُ عن كثير من المفسرين‏:‏ فقال بعضُهم‏:‏ قولُه‏:‏ ‏{‏إن أردن‏}‏ راجِعٌ إلى الأيامى في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنكِحُواْ الأيامى مِنكُمْ‏}‏، وقال بعضهم‏:‏ هذا الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏إِن أَرَدْنَ‏}‏ مَلْغِيٌّ ونحو هذا مِمَّا هو ضعيف، واللّه الموفق للصواب برحمته‏.‏

قلت‏:‏ وما اختاره * ع * هو الذي عَوَّلَ عليه ابن العرَبيِّ وَنَصَّهُ، وإنما ذكر اللّه تعالى إِرادة التَّحَصّنِ من المرأة؛ لأَنَّ ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأَمَّا إذا كانت هي راغبةً في الزنا، لم يتحصل الإكراه فحصلوه إنْ شاء اللّه، انتهى من «الأحكام» وقرأ ابن مسعود وغيره‏:‏ «فَإنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ لهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ثم عَدَّد سبحانه نِعَمَهُ على المؤمنين في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ليقع التحفظ مِمَّا وقع أولئك فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نُورُ السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ النور في كلام العرب الأضواء المُدْرَكَةُ بالبصر، ويُسْتَعْمَلُ مجازاً فيما صَحَّ من المعاني ولاح؛ فيقال‏:‏ كلام له نور، ومنه الكتاب المنير واللّه تعالى ليس كمثله شيء فواضح أَنَّهُ ليس من الأضواء المُدْرَكَةِ، ولم يبقَ إلاَّ أَنَّ المعنى مُنَوِّرُ السموات والأرض، أي‏:‏ به وبقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها كما تقول الملك نور الأمة أي قِوام أمورها وصلاحُ جملتها، والأمر في الملك مجاز، وهو في صفة اللّه تعالى حقيقة مَحْضَةٌ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وغيره‏:‏ «اللّه نَوَّرَ» بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء والضمير في ‏{‏نوره‏}‏ يعود على اللّه تعالى؛ قاله جماعة، وهو إضافة خلق إلى خالق، كما تقول‏:‏ ناقة اللّه، وبيت اللّه، ثم اختلفوا في المراد بهذا النور، فقيل‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو المؤمن، وقيل‏:‏ هو الإيمان والقرآن، وفي قراءة أُبَيِّ ابن كعب‏:‏ «مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِينَ» والمشكاة‏:‏ هي الكُوَّةُ غير النافذة فيها القنديل ونحوه، وهذه الأقوال الثلاثة يَطَّرِدُ فيها مقالة جزء من المثال بجزء من المُمَثَّلِ، فعلى قول مَنْ قال‏:‏ المُمَثَّلُ محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول كعب الأحبار فرسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم هو المشكاةُ أو صدره، والمصباح هو النبوءة وما يَتَّصِلُ بها من علمه وهداه، والزجاجة‏:‏ قلبه، والشجرة المباركة‏:‏ هي الوحي، والزيت‏:‏ هو الحجج والبراهين‏.‏ وعلى قول مَنْ قال‏:‏ إنَّ المُمَثَّلَ به هو المؤمن وهو قول أُبَيِّ بن كعب، فالمشكاة صدره، والمصباح‏:‏ الإيمان، والعلم، والزجاجة‏:‏ قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها‏:‏ هو الحجج، والحكمة التي تضمنها قولُ أُبَيٍّ فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي في قبور الأموات، وتحتمل الآية معنى آخر، وهو أَنْ يريدَ‏:‏ مَثَلُ نورِ اللّه الذي هو هداه في الوضوح كهذه الجملة من النور، الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة؛ التي هي أبلغ صفات النور، الذي هو بين أيديكم أَيُّها البشر؛ وقال أبو موسى‏:‏ المشكاة‏:‏ الحديدة أو الرَّصَاصَةُ التي يكون فيها القنديل في جوف الزجاجة، والأَوَّلُ أَصَحُّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي زُجَاجَةٍ‏}‏ لأَنَّه جسم شَفَّافٌ، المصباحُ فيه أنور منه في غير الزجاجة، والمصباح‏:‏ الفتيل بناره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ‏}‏ أي في الإنارة والضوء، وذلك يحتمل معنيين‏:‏ إمَّا أَنْ يريد أَنَّها بالمصباح كذلك، وإمَّا أَنْ يريد أَنَّها في نفسها؛ لصفائها وجودة جوهرها، وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور؛ قال الضَّحَّاكُ‏:‏ الكوكب الدُّرِّيُّ‏:‏ الزهرة‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «تَوَقَّدَ» بفتح التاء والدال، والمراد‏:‏ المصباح، وقرأ نافع وغيره‏:‏ «يُوقَدُ» أي‏:‏ المصباح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِن شَجَرَةٍ‏}‏ أي من زيت شجرة، والمباركة‏:‏ المُنَمَّاةُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏ قال الحسن‏:‏ أي‏:‏ ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا؛ وإنَّما هو مَثَلٌ ضربه اللّه تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إمَّا شرقِيَّةً وإمَّا غربِيَّةً، وقيل غيرُ هذا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية مبالغة في صفة صفائه وحُسْنِهِ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نُّورٌ على نُورٍ‏}‏ أي‏:‏ هذه كلها ومعان تكامل بها هذا النورُ المُمَثَّلُ به، وفي هذا الموضع ثُمَّ المثالُ، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هي المساجد المخصوصةُ بعبادة اللّه التي من عادتها أنْ تُنَوَّرَ بهذا النوع من المصابيح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَذِنَ الله‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ أمر وقضى، و‏{‏تُرْفَعَ‏}‏ قيل‏:‏ معناه تُبْنَى وتُعَلَّى؛ قاله مجاهد وغيره؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127‏]‏‏.‏

وقال الحسن‏:‏ معناه تُعظَّم ويُرْفَعُ شأنها، وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً، و‏{‏يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في المساجد، ‏{‏بالغدو والأصال‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أراد ركعتي الضُّحَى‏.‏ والعصر، وإنَّ ركعتي الضحى لفي كتاب اللّه وما يغوص عليها إلاَّ غَوَّاصٌ؛ ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمرَ اللّه تعالى وطلبهم رضاه، لا يشغلهم عن الصلاة وذكرِ اللّه شيءٌ من أمور الدنيا‏.‏

قلت‏:‏ وعن عمر- رضي اللّه عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحَدٍ، يَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، ويُسْمعُهُمُ الدَّاعِي، فَيْنَادِي مُنَادٍ‏:‏ سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ لَمِنَ الْكَرَمُ اليَوْمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ ‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِع‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ ‏؟‏ ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُواْ ‏{‏لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله‏}‏ إلى آخر الآية، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ‏:‏ سَيَعْلَمُ أَهْلُ الجَمْعِ لَمِنِ الكَرَمُ اليَوْمَ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَيْنَ الحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ رَبَّهمْ ‏"‏ مختصراً رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» وله طرق عن أَبي إسحاقَ، انتهى من «السلاح»، ورواه أيضاً ابن المبارك من طريق ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نادى مُنَادٍ‏:‏ سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ منْ أَصْحَابُ الكَرَم، لِيَقُمْ الحَامِدُونَ لِلَّهِ تعالى على كُلِّ حَالٍ، فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ يُنَادِي ثَانِيَةً‏:‏ سَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ؛ لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ جُنُوبُهُمْ تتجافى عَنِ المَضَاجِعِ؛ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ؛ قَالَ‏:‏ فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجنَّة، ثُمَّ يُنَادِي ثَالِثَةً‏:‏ سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ؛ لِيَقُمَ الَّذِينَ كَانَتْ‏:‏ ‏{‏لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَاء الزكواة يخافون يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار‏}‏ فيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجَنَّة ‏"‏ انتهى من «التذكرة»‏.‏ والزكاة هنا عند ابن عباس‏:‏ الطاعة للَّه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هي الزكاةُ المفروضة في المال، واليوم المخوف‏:‏ هو يوم القيامة، ومعنى الآية‏:‏ إنَّ ذلك اليوم لِشِدَّةِ هوله القلوبُ والأبصارُ فيه مضطربةٌ قِلِقَةٌ متقلبة‏.‏

قلت‏:‏ ومن «الكلم الفارقية»‏:‏ سعادة القلبِ إقباله على مُقَلِّبِهِ والعالِم بحال مَآله ومُنْقَلَبهِ، القلوبُ بحارٌ جواهرُها المعارفُ، وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة، غَوَّاصُ بحر الصُّوَرِ يغوصُ بصورته في طلب مكسبه، والعارِفُ يغوص بمعنى قلبه في بحار غَيْبِ رَبِّهِ، فيلتقط جواهرَ الحكمة ودُرَرَ الدِّرَايَةِ قلوبُ العارفين، كالبحار تنعقد في أصداف ضمائرهم جواهِرُ المعارف والأسرار، القلوب كالأراضي إلى من أسلمت إليه قلبك بذر فيه ما عنده أَمَّا مَنْ بذر نفسه ووسواسه العفن المسوس أو بذر فيه معرفته بالرب المقدس، انتهى‏.‏

قلت‏:‏ فإنْ أردت سلامتك في ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلاً على طاعة مولاك؛ فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أَتَى اللّه بقلب سليم‏.‏

قال الواحِدِيُّ‏:‏ تتقلب فيه القلوبُ بين الطمع في النجاة والخوفِ من الهلاك، والأبصارُ تتقلَّبُ في أيِّ ناحية يؤخذ بهم أذاتَ اليمين أم ذاتَ الشمال، ومن أيِّ جهة يُؤتون كتبَهم، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ‏}‏ أي فعلوا ذلك ليجزيهم ‏{‏أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ‏}‏ أي‏:‏ ثواب أحسن ما عملوا، ولمَّا ذكر تعالى حالة المؤمنين وتنويره قلوبَهم عَقَّبَ ذلك بذكر الكَفَرَةِ وأعمالهم، فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ‏}‏ وهي جمع قاعٍ، والقاع‏:‏ المنخفض البساط من الأرض، ويريد ب ‏{‏جَآءَهُ‏}‏‏:‏ جاء موضعه الذي تَخَيَّلَهُ فيه، ويحتمل أنْ يعودَ الضمير في‏:‏ ‏{‏جَآءَهُ‏}‏ على السراب ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يَدُلُّ عليه الظاهر تقديره‏:‏ فكذلك الكافر يومَ القيامة، يَظُنُّ عملَه نافعاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ الله عِندَهُ‏}‏ أي بالمجازات الضمير في ‏{‏عِندَهُ‏}‏ عائد على العَمَلِ، وباقي الآية وعبدٌ بَيِّنٌ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كظلمات‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏كَسَرَابٍ‏}‏ وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي أَنَّهم من الضلال في مثل هذه الظلمات المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بَعْضُ الناس إلى أَنَّ في هذا المثالَ أجزاءً تقابل أجزاءً من المُمَثَّلِ به فقال‏:‏ الظلمات‏:‏ الأعمال الفاسدة والمُعْتَقَدَاتُ الباطلة، والبحر اللُّجِّيُّ‏:‏ صَدْرُ الكافر وقلبه، واللجي معناه‏:‏ ذو اللجة وهي مُعْظَمُ الماء وغَمْرُه، واجتماع ما به أَشَدُّ لظلمته، والموج‏:‏ هو الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبَه، والسحاب هو شهوتُه في الكفر وإعراضه عن الإيمان‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا التأويل سائغ أَلاَّ يُقَدَّرُ هذا التقابل سائغ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يراها‏}‏ لفظ يقتضي مبالغةَ الظلمة، واخْتُلِفَ في هذه اللفظة، هل معناها أَنَّهُ لم يريده البتَّة‏؟‏ أو المعنى أَنَّه رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ وكاد أَلاَّ يراها، ووجه ذلك أَنَّ «كاد» إذا صَحِبَهَا حرف النفي، وَجبَ الفعل الذي بعدها، وإذا لم يصحبها انتفى الفعل، وكاد معناها‏:‏ قارب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ قالت فرقة‏:‏ يريد في الدنيا، أي‏:‏ مَنْ لم يهده اللّه لم يَهْتَدِ، وقالت فرقة‏:‏ أراد في الآخرة، أي‏:‏ مَنْ لم يرحمه اللّه ويُنَوِّرُ حاله بالمغفرة والرحمة فلا رحمة له‏.‏

قال * ع *‏:‏ والأَوَّلُ أبينُ وأليق بلفظ الآية، وأيضاً فذلك متلازم، ونور الآخرة إنَّمَا هو لمن نُوِّرَ قلبه في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِى السماوات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الرؤية هنا قلبية، والتسبيح‏:‏ التنزيه والتعظيم، والآية عامَّةٌ عند المفسرين لكُلِّ شيء من العقلاء والجمادات‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ قال الزَّجَّاجُ وغيره‏:‏ المعنى‏:‏ كُلٌّ قد علم اللّهُ صَلاَتَهُ وتسْبِيحَهُ‏.‏

وقال الحسن‏:‏ المعنى‏:‏ كُلٌّ قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ المعنى‏:‏ كل قد علم صلاةَ اللّهِ وتسبيحَ اللّهِ اللَّذَيْنِ أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خَلْقٍ إلى خالقٍ، وباقي الآية وعيد، و‏{‏يُزْجِي‏}‏ معناه‏:‏ يسوق، والرُّكام، الذي يركب بَعْضُه بعضاً ويتكاثف، والودق‏:‏ المطر، قال البخارِيُّ‏:‏ ‏{‏مِن خلاله‏}‏ أي‏:‏ من بين أضعاف السحاب، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ‏}‏ قيل‏:‏ ذلك حقيقةٌ، وقد جعل اللّه في السماء جبالاً من بَرَدٍ، وقالت فرقة‏:‏ ذلك مجازٌ، وإنَّما أراد وصف كثرته، وهذا كما تقول‏:‏ عند فلان جبال من مال وجبال من العلم‏.‏

قلت‏:‏ وحَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى إنْ لم يمنع من ذلك مانع، ومن كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي أبي علي التنوخي، أحد الرواة عن أبي الحسن الدَّارَقُطْنِيِّ والمُخْتَصِّينَ به قال‏:‏ أخبرنا أَبو بكر الصوليُّ عن بعض العلماء قال‏:‏ رأيتُ امرأةً بالبادية، وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعِها، فجاء الناس‏:‏ يُعَزُّنَها فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت‏:‏ اللهم أنتَ المَأْمُولُ لأَحْسَنِ الخَلَفِ وبيدك التعويضُ مِمَّا تَلِفَ، فافعل بنا ما أَنْتَ أهله، فإنَّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك، قال‏:‏ فلم أبرحْ حتى مَرَّ رجل من الأَجِلاَّءِ، فحُدِّث بما كان؛ فَوَهَبَ لها خَمْسِمائَةٍ دينارٍ، فأجاب اللّه دعوتها وَفَرَّجَ في الحين كربتها، انتهى‏.‏ وال ‏{‏سنا‏}‏ مقصوراً‏:‏ الضوءُ، وبالمد‏:‏ المَجْدُ، والباء في قوله ‏{‏بالأبصار‏}‏ يحتمل أنْ تكون زائدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 51‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ‏}‏ الآية آية اعتبار، والدابة‏:‏ كُلُّ ما دَبَّ من جميع الحيوان، وقوله‏:‏ ‏{‏مِّن مَّاءٍ‏}‏ قال الجمهور‏:‏ يعني أنَّ خلْقَةَ كُلِّ حيوان فيها ماء؛ كما خُلِقَ آدمُ من الماء والطين، وقال النقاش‏:‏ أراد منيَّ الذكورِ، والمشي على البطن‏:‏ للحَيَّاتِ، والحُوتِ، والدُّودِ، وغيره، وعلى رجلين‏:‏ للإنسان، والطَّيْرِ إذا مشى، وعلى أربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ‏:‏ «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ» فعَمَّمَ بهذه الزيادة جميعَ الحيوان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات‏}‏ يَعُمُّ كل ما نصب اللّه تعالى من آية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ يعني المنافقين؛ رُوِيَ أَنَّ رجلاً من المنافقين اسمه بشر دعاه يهودِيُّ إلى التحاكُمِ عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وكان المنافق مُبْطِلاً، فَأبى، ودعا اليهودِيَّ إلى كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية، فيه والحيف‏:‏ المَيْلُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية المعنى‏:‏ إنَّما كان الواجب أنْ يقوله المؤمنون إذا دُعُوا إلى حكم اللّه ورسوله سَمِعْنَا وأطعنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

وقولُهُ سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفآئزون‏}‏ قال الغزاليُّ في «المنهاج»‏:‏ التقوى في القرآن تُطْلَقُ على ثلاثة أشياء‏:‏

أحدها بمعنى الخشية والهيبة؛ قال اللّه عز وجل‏:‏ ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ بمعنى الطاعة والعبادة؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أطيعوا اللّه حَقَّ طاعته، وقال مجاهد‏:‏ هو أَنْ يُطَاعَ فلا يُعْصَى، وأنْ يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، وأنْ يُشْكَرَ فلا يُكْفَرَ‏.‏

والثالث‏:‏ بمعنى تنزيه القلب عن الذنوب، وهذه هي الحقيقة في التقوى دون الأَولَيَيْنِ؛ أَلا ترى أَنَّ اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفآئزون‏}‏ ذَكَرَ الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى، فعلمتَ أنَّ حقيقة التقوى معنى سوى الطاعةِ والخشيةِ، وهي تنزيهُ القلب عن الذنوب، انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ جهد اليمين‏:‏ بلوغُ الغاية في تعقيدها، و‏{‏لَيَخْرُجُنَّ‏}‏ معناه‏:‏ إلى الغزو، وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دُعُوا إلى اللّه ورسوله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ يحتمل معاني‏:‏

أحدها‏:‏ النهي عن القَسَمِ الكاذب؛ إذ قد عُرِفَ أَنَّ طاعتهم دغلة فكأنه يقول‏:‏ لا تغالطوا فقد عُرِفَ ما أَنْتُمْ عليه‏.‏

والثاني‏:‏ أَنَّ المعنى‏:‏ لا تتكلَّفُوا القَسَمَ؛ فطاعة معروفة على قدر الاستطاعة أَمْثَلُ وأجدر بكم، وفي هذا التأويل إبقاءٌ عليهم، وقيل غير هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏ معناه‏:‏ تتولوا، والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم هو السمعُ والطاعة واتباع الحق، وباقي الآية بَيِّنٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةُ عامَّةٌ لأُمَّةِ نَبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم في أنْ يُمَلِّكَهُمُ اللّه البلادَ كما هو الواقع، فسبحانه ما أصدقَ وعدها وقال الضَّحَّاكُ في كتاب «النقاش»‏:‏ هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللّه عنهم والصحيح في الآية أَنَّها في استخلاف الجمهور، واللام في ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ‏}‏ لأم القَسَم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَعْبُدُونَنِي‏}‏ فعل مستأنف، أي‏:‏ هم يعبدونني‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ يحتمل أنْ يريدَ كفر هذه النعم، ويحتمل الكفر المُخْرِجَ عن المِلَّةِ عياذاً باللّه من سخطه‏!‏ وباقي الآية بَيِّنٌ مِمَّا تقدم في غيرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏المصير ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ الآية‏:‏ قيل‏:‏ «الذين ملكت أيمانهم»‏:‏ الرجال والنساء، ورَجَّحَهُ الطبريُّ، وقيل‏:‏ الرجال خاصة، وقيل‏:‏ النساء خاصَّةً، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء‏:‏ أَنَّ اللّه تعالى أَدَّبَ عباده بأنْ يكونَ العبيدُ والأَطفَالُ الذين عقلوا معاني الكَشَفَةِ ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثِة، وهي الأوقات التي تقتضي عادَةُ الناس الانكشافُ فيها وملازَمَةُ التَّعَرِّي في المضاجع، وهي‏:‏ عند الصباح، وفي وقت القائلة وهي الظهيرة؛ لأَنَّ النهار يظهر فيها إذا علا واشْتَدَّ حَرُّهُ، وبعدَ العشاء؛ لأَنَّهُ وقتُ التعرِّي للنوم، وأما في غير هذه الأوقات فالعُرْفُ من الناس التَّحَرُّزُ والتَّحَفُّظُ فلا حرجَ في دخول هذه الصنيفة بغير إذن؛ إذ هم طَوَّافون يمضون ويجيئون، لا يجد الناس بُدّاً من ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏طوافون‏}‏ و‏{‏ثلاث مرات‏}‏ نُصِبَ على الظرف؛ لأَنَّهم لم يُؤْمروا بالاستئذان ثلاثاً؛ وإنَّما أُمِروا بالاستئذان في ثلاث مواطنَ، فالظرفية في ثلاث بَيِّنة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك يُبَيِّنُ الله الأيات لَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ بين للمتأمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أَمَرَ تعالى في هذه الآية أَنْ يكونوا إذا بلغوا الحُلْمَ على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من اللّه عز وجل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ بَيِّنٌ لا يحتاجُ إلى تفسير‏.‏

‏{‏والقواعد مِنَ النساء‏}‏‏:‏ هن اللواتي قد أسْنَنَّ وقَعَدْنَ عن الوِلْدِ، واحدتهن قَاعِدٌ، وقال ربيعة‏:‏ هي هنا التي تُسْتَقْذَرُ من كِبرَهَا، قال غيره‏:‏ وقد تَقْعُدُ المرأة عن الوِلْدِ وفيها مُسْتَمْتَعٌ، ولما كان الغالب من النساء أَنَّ ذواتَ هذا السِّنِّ لا مذهبَ للرجال فيهنَّ أُبِيحَ لهنَّ ما لم يُبَحْ لغيرهنَّ، وقرأ ابن مسعود وابن أُبَيٌّ‏:‏ «أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهنَّ» والعرب تقول‏:‏ امرأة واضع للتي كَبُرَتْ، فوضعت خمارَها، ثم استثنى عليهن في وضع الثياب أَلاَّ يقصدنَ به التَّبَرُّجَ وإبداءَ الزينة؛ فرُبَّ عجوزٍ يبدو منها الحِرْصُ على أَنْ يظهر لها جمال، والتبرج‏:‏ طلب البُدُوِّ والظهورِ للعين، ومنه‏:‏ بُرُوجٌ مُشَيَّدة، والذي أبيح وضعه لهن الجِلبابُ الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود وغيره، ثم ذكر تعالى أَنَّ تَحَفُّظَ الجميعِ مِنْهُنَّ، واستعفافَهُنَّ عن وضع الثياب، والتزامهنَّ ما يلتزم الشَّوَابُّ من الستر أفضلُ لَهُنَّ وخير‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ سميع لما يقولُ كُلُّ قائل وقائلة عليم بمقصد كل أحد، وفي هاتين الصفتين توعد وتحذير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 61‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ‏}‏ إلى قوله ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمُ الأيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ظاهر الآية‏:‏ وأَمْرُ الشريعة أَنَّ الحَرَجَ عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم الإتيان به بالأكمل، ويقتضي العذر أَنْ يقعَ منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، وللناس أقوال في الآية وتخصيصاتٌ يطول ذكرها، وذكر اللّه تعالى بيوتَ القراباتِ، وسقط منها بيوت الأبناء؛ فقال المفسرون‏:‏ ذلك لأَنَّها داخلة في قوله‏:‏ ‏{‏من بيوتكم‏}‏ لأنَّ بيت ابن الرجل بيتُه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ‏}‏ يريد ما خزنتم وصار في قبضتكم، فمعظمه ما ملكه الرجلُ في بيته وتحت غلقه، وهو تأويل الضَّحِّاكِ ومجاهد، وعند جمهور المفسرين‏:‏ يدخل في الآية الوكلاءُ والعبيدُ والأُجراءُ بالمعروف‏.‏ وقرأ ابن جبير‏:‏ «مَلَكْتُمْ مَفَاتِيحَهُ» مبنياً للمفعول وزيادة يا بين التاء والحاء، وقَرَنَ تعالى في هذه الآية الصديقَ بالقرابة المَحْضَةِ الوكيدة؛ لأَنَّ قُرْبَ المودة لصيق؛ قال معمر‏:‏ قلت‏:‏ لقتادَة‏:‏ أَلاَ أشرب من هذا الجُبِّ‏؟‏ قال‏:‏ أنت لي صديق، فما هذا الاستئذان‏؟‏ قال ابن عباس في كتاب «النقاش»‏:‏ الصديق أوكد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين‏:‏ ‏{‏فَمَا لَنَا مِن شافعين * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 100، 101‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏‏:‏ رَدٌّ لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفذاذاً البتَّةَ، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وأَنَّ إحضار الأكيل لَحَسَنٌ ولكن بأَلاَّ يحرم الانفرادُ، قال البخاريُّ‏:‏ أشتاتاً وشتى واحد، انتهى‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ‏"‏ الحديث، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏ الآية، وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر‏:‏ «لاَ يَجْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِهِ» الحديث‏.‏

قلت‏:‏ والحق أَنْ لا نسخَ في شيءٍ مِمَّا ذُكِرَ، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً‏}‏‏:‏ قال النَّخَعِيُّ‏:‏ أراد المساجد، والمعنى‏:‏ سُلِّمُوا على مَنْ فيها، فإنْ لم يكن فيها أحد فالسلام أنْ يقول‏:‏ السلامُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السلامُ علينا وعلى عبادِ اللّه الصالحين‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ المراد البيوتُ المسكونة، أي‏:‏ سلِّموا على مَنْ فيها، قالوا‏:‏ ويدخل في ذلك غيرُ المسكونة، ويُسَلِّم المرءُ فيها على نفسه بأنْ يقول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين‏.‏

قلت‏:‏ وفي «سلاح المؤمن»، وعن ابن عباس في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هو المسجدُ إذا دخلته فقل‏:‏ السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين رواه الحاكم في «المستدرك» وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً، انتهى، وهذا هو الصحيح عن ابنِ عباس، وفَهِمَ النوويُّ أَنَّ الآية في البيوت المسكونة، قال‏:‏ ففي الترمذيِّ عن أنس قال‏:‏ قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يَا بُنَيَّ، إذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ، فَسَلِّمْ، يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح، وفي أبي داودَ عن أبي أُمَامَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثَلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ عز وجل‏:‏ رَجلٌ خَرَجَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللّهِ عز وجل فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى المَسْجِدِ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أَوْ يَرُدُّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ؛ وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ؛ فَهُو ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ تعالى» حديث حسن رواه أَبو داودَ بإسناد حسن، ورواه آخرون، والضمان‏:‏ الرعاية للشيء، والمعنى‏:‏ أَنَّه في رعاية اللّه عز وجل، انتهى‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة‏}‏ وصفها تعالى بالبركة؛ لأَنَّ فيها الدعاءَ واستجلابَ مودَّةِ المسلم عليه‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرنا في سورة النساءِ‏:‏ ما ورد في المصافحة من رواية ابن السُّنِّيِّ قال النووي‏:‏ وَرُوِّينَا في سنن أَبي داودَ والترمذيِّ وابن ماجه عن البَرَاءِ بن عازِبٍ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» انتهى‏.‏ والكاف من قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏‏:‏ كافُ تشبيهٍ؛ وذلك‏:‏ إشارة إلى هذه السنن‏.‏

وقال أيضاً بعضُ الناس في هذه الآية‏:‏ أَنَّها منسوخة بآية الاستئذان المتقدمة‏.‏

قال * ع *‏:‏ والنسخ لا يُتَصَوَّرُ في شيءٍ من هذه الآيات، بل هي مُحْكَمَةٌ، أَمَّا قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏ ففي التعدي والخدع ونحوه، وأمَّا هذه الآية ففي إباحة طعام هذه الأصناف التي يسرها استباحَةُ طعامها على هذه الصفة، وأمَّا آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكَشَفَةِ، فإذا استأذن المرءُ ودخل المنزل بالوجه المباح صَحَّ له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة، وليس يكونُ في الآية نسخ فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ إنَّما هنا‏:‏ للحصر والأمر الجامع يُرَادُ به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لمصلحة، فالأدب اللازم في ذلك أَلاَّ يذهبَ أَحد لعذرٍ بإذنه، والإمام الذي يُتَرَقَّبُ إذنه هو إمام الإمارة، وروي‏:‏ أنَّ هذه الآية نزلت في وقت حَفْرِ النبي صلى الله عليه وسلم خندقَ المدينة، فكان المؤمنون يستأذنون، والمنافقون يذهبون دون إذن، ثم أمر تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بالاستغفار لصنفي المؤمنين‏:‏ مَنْ أَذِنَ له، ومَنْ لم يُؤْذن له‏.‏ وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً‏}‏ أي‏:‏ لا تخاطبوه كمخاطبة بعضكم لبعض، وأمرهم تعالى في هذه الآية وفي غيرها أنْ يدعوا رسول الله بأشرف أسمائه؛ وذلك هو مُقْتَضَى التوقير، فالأدب في الدعاء أنْ يقول‏:‏ يا رسولَ اللّه، ويكون ذلك بتوقير وبِرٍّ، وخفض صوت، قاله محاهد، واللواذ‏:‏ الرَّوْغَانُ، ثم أمرهم تعالى بالحذر من عذاب اللّه ونِقْمَتِهِ إذا خالفوا أمره ومعنى ‏{‏يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ يقع خلافهم بعد أمره، ثم أخبر تعالى أَنَّهُ قد علم ما أهلُ الأرض والسماء عليه، وباقي الآية بَيِّنٌ، والحمد للَّه‏.‏

سورة الفرقان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ‏(‏1‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏‏.‏ هو مطاوع «بارك» من البَرَكَةِ، و«بارك» فاعَل من واحد، ومعناه‏:‏ زاد، و«تبارك»‏:‏ فعل مُخْتَصٌّ باللّه تعالى، لم يُسْتَعْمَلْ في غيره، وهو صفة فعل، أي‏:‏ كَثُرَت بركاته، ومن جملتها‏:‏ إنزال كتابه الذي هو الفُرْقَانُ بين الحَقِّ والباطل، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ‏}‏‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ هو لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو عبده المذكور، ويُحْتَمَلُ أن يكون للفرقان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَخَلَق كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ عامٌّ في كل مخلوق، ثم عَقَّبَ تعالى بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لها صفاتُ الألوهِيَّةِ‏.‏ والنشور‏:‏ بعث الناس من القبور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏5‏)‏ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ قريشاً ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه‏}‏‏:‏ محمد، ‏{‏وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ‏}‏ تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل، ثم أكذبهم اللّه تعالى، وأخبر أَنَّهم ما جاؤوا إلاَّ إثماً وزوراً، أي‏:‏ ما قالوا إلاَّ باطلاً وبُهْتَاناً؛ قال البخاريُّ‏:‏ ‏{‏تملى عَلَيْهِ‏}‏ تقرأ عليه؛ من أمليت وأمللت، انتهى‏.‏ ثم أمر تعالى نَبِيُّه عليه السلام أنْ يقول‏:‏ إنَّ الذي أنزله هو الذي يعلم سِرَّ جميع الأشياء التي في السموات والأرض، وعبارة الشيخ العارف باللّه، سيدي عبد اللّه بن أبي جمرة ‏(‏رضي اللّه عنه‏)‏‏:‏ ولما كان المرادُ مِنَّا بمُقْتَضَى الحكمة الرَّبَانِيَّةِ العبادَةُ ودوامُهَا؛ ولذلك خُلِقْنَا كما ذكر مولانا سبحانه في الآية الكريمة، يعني‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ الآية ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وهو عز وجل غَنِيٌّ عن عبادتنا وعن كل شيء؛ لكن الحكمة اقتضته لأَمرٍ لا يعلمه إلاَّ هو؛ كما قال اللّه عز وجل‏:‏ ‏{‏الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ الذي يعلم الحكمةَ في خلقها وكذلك في خَلْقِنَا وخَلْقِ جميعِ المخلوقات، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ‏(‏7‏)‏ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏8‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏9‏)‏ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ‏(‏10‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ‏(‏11‏)‏ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ‏(‏13‏)‏ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى عندهم‏:‏ أَنَّ مَنْ كان رسولاً فهو مُسْتَغْنٍ عن الأكل والمشي في الأسواق، ومُحَاجَّتُهُمْ بهذا مذكورة في السِّيَرِ، ثم أَخبر تعالى عن كفَّارِ قريش، وهم الظالمون المشار إليهم، أَنَّهم قالوا‏:‏ ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً‏}‏ أي‏:‏ قد سُحِرَ، ثُمَّ نَبَّهَ تعالى نِبَيَّهُ مُسَلِّياً له عن مقالتهم فقال‏:‏ ‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، والقصور التي في هذه الآية تَأَوَّلَهَا الثعلبيُّ وغيره أَنَّها في الدنيا، والقصور هي البيوتُ المبنية بالجدرات، لأَنَّها قصرت عن الداخلين والمستأذنين، وباقي الآية بَيِّنٌ، والضمير في ‏{‏رَأَتْهُم‏}‏ لجهنم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ‏(‏16‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد‏}‏ المعنى‏:‏ قل يا محمدُ لهؤلاء الكفرة الصائرين إلى هذه الأحوال من النار‏:‏ أذلك خير أم جَنَّةُ الخلد، وهذا استفهام على جِهَةِ التوقيف والتوبيخ؛ لأَنَّ الموقِفَ جائز له أنْ يُوقِفَ مُحَاوِرَهُ على ما شاء؛ ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطإِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» يعني الكفار، ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يريد كل شيء عُبِدَ من دون اللّه، وقرأ ابن عامر‏:‏ «فَنَقُولُ» بالنون، قال جمهور المفسرين‏:‏ والموقف المجيب كل من ظلم بأن عُبِدَ مِمَّنْ يعقل كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم، وقال الضَّحَّاكُ وعِكْرِمَةُ‏:‏ الموقف المجيب‏:‏ الأصنام التي لا تَعْقِلُ يقدرها اللّه تعالى على هذه المقالة، ويجيء خزيَ الكفرة لذلك أبلغ، وقرأ الجمهور‏:‏ «نَتَّخِذَ» بفتح النون، وذهبوا بالمعنى إلى أَنَّه مِنْ قول مَنْ يَعْقِلُ، وأَنَّ هذه الآية بمعنى التي في سورة سبإ‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ‏}‏ الآية ‏[‏سبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وكقول عيسى‏:‏ ‏{‏مَا قُلتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏حتى نَسُواْ الذكر‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء- عليهم السلام-، وقرأ زيد بن ثابت وجماعة‏:‏ «نُتَّخَذَ» بضم النون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ‏(‏19‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ‏(‏20‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ‏(‏21‏)‏ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏22‏)‏ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ‏(‏23‏)‏ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ خطابٌ من اللّه تعالى للكفرة، أخبرهم أنَّ مَعْبُودَاتِهم كذبتهم، وفي هذا الإخبار خِزْيٌ وتَوْبِيخٌ لهم، وقرأ حفص عن عاصم‏:‏ «فَمَا تَسْتَطِيعُونَ» بالتاء من فوق؛ قال مجاهد‏:‏ الضمير في «يستطيعون» هو للمشركين، و‏{‏صرفاً‏}‏ معناه رَدُّ التكذيب أو العذاب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ هو خطاب للكُفَّارِ، وقيل‏:‏ للمؤمنين، والظلم هنا‏:‏ الشِّرْكُ، قاله الحسن وغيره، وقد يحتمل أنْ يعم غيرَه من المعاصي، وفي حرف أُبَيِّ‏:‏ «وَمَنْ يَكْذِبْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ رَدٌّ على قريش في قولهم‏:‏ ‏{‏مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق‏}‏ ثم أخبر عز وجل أَنَّ السبب في ذلك أَنَّه جعل بعض عَبيدَهُ فتنةً لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، والتوقيف ب ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ خَاصٌّ بالمُؤمنين المحققين، قال ابن العربي في «الأحكام»‏:‏ ولما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيه المناكر كَرِهَ علماؤُنا دخولَها لأرباب الفضل والمُقْتَدَى يهم في الدِّينِ؛ تنزيهاً لهم عن البقاع التي يُعْصَى اللّه تعالى فيها، انتهى‏.‏ ثم أعرب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين وعن عمر بن الخطاب- رضي اللّه عنه- أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ‏:‏ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ ‏"‏ رواه الترمذيُّ وابن ماجه، وهذا لفظ الترمذي، وزاد في رواية أخرى‏:‏ «وَبَنَى لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» ورواه الحاكم في «المستدرك» من عدة طرق، انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الرجاء هنا على بابه، وقيل‏:‏ هو بمعنى الخوف، ولمَا تَمَنَّتْ كُفَّارُ قريش رؤيةَ رَبِّهِمْ أخبر تعالى عنهم أَنَّهُم عَظَّمُوا أَنفسهم، وسألوا ما ليسوا له بأهل‏.‏

*ص* ‏{‏لَقَدْ‏}‏ جواب قَسَمٍ محذوف، انتهى‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ قال مجاهد، وغيرُه‏:‏ هو للملائكة، والمعنى‏:‏ يقول الملائكة للمجرمين‏:‏ حِجْراً محجوراً عليكم البُشْرَى، أي‏:‏ حراماً مُحَرَّماً، والحِجْرُ‏:‏ الحرامُ، وقال مجاهد أيضاً وابن جريج‏:‏ الضمير للكافرين المجرمين، قال ابن جريج‏:‏ كانت العرب إذا كرهوا شيئاً، قالوا‏:‏ حِجْراً، قال مجاهد‏:‏ عوذاً يستعيذون من الملائكة‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويحتمل أنْ يكونَ المعنى‏:‏ ويقولون حرام مُحَرَّمٌ علينا العَفْوُ، وقد ذكر أبو عبيدة أنَّ هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها مَنْ خاف آخَرَ في الحَرَمِ، أو في شهرٍ حرامٍ إذا لقيه وبينهما تِرَةٌ؛ قال الداودِيُّ‏:‏ وعن مجاهد‏:‏ ‏{‏وقدمنا‏}‏ أي‏:‏ عمدنا، انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ ‏{‏وقدمنا‏}‏ أي‏:‏ حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة، ومعنى الآية‏:‏ وقصدنا إلى أعمالهم التي لا تَزِنُ شَيْئاً فصيرناها هباءً، أي‏:‏ شَيْئاً لا تحصيلَ له، والهباء‏:‏ ما يتطايرُ في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكادُ يَرى إلاَّ في الشمس، قاله ابن عباس وغيره، ومعنى هذه الآية‏:‏ جعلنا أَعمالهم لا حُكْمَ لها ولا منزلة، ووصف تعالى الهباء في هذه الآية بمنثور، ووصفه في غيرها بمُنْبَثٍّ فقالت فرقة‏:‏ هما سواء، وقالت فرقة‏:‏ المُنْبَثُّ‏:‏ أرَقُّ وأَدَقُّ من المنثورِ؛ لأَنَّ المنثورَ يقتضي أَنَّ غيره نَثَرَهُ، والمُنْبَثَّ كأنه انبثَّ من دِقَّتِهِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسَنُ مَقِيلاً‏}‏ ذهب ابن عباس والنَّخَعِيُّ وابن جريج‏:‏ إلى أَن حساب الخلق يَكْمُلُ في وقت ارتفاع النهار، وَيَقِيلُ أهلُ الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فالمقيل‏:‏ القائلة‏.‏

قال * ع *‏:‏ ويُحْتَمَلُ أَنَّ اللفظة إنَّما تضمنت تفضيلَ الجَنَّةِ جُمْلَةً، وحُسْنَ هوائها؛ فالعرب تفضِّل البلادَ بحُسنِ المقيل؛ لأَنَّ وقت القائلة يُبْدِي فسادَ هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسناً حاز الفضل، وعلى ذلك شواهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ‏(‏25‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ‏(‏26‏)‏ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ‏(‏27‏)‏ يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ‏(‏28‏)‏ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء‏}‏ يريد‏:‏ يومَ القيامة‏.‏

* ص *‏:‏ ‏{‏بالغمام‏}‏ الباء‏:‏ للحال، أي‏:‏ متغيمة، أو للسبب، أو بمعنى «عن»، انتهى‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً‏}‏‏:‏ دليل على أَنَّهُ سهل على المؤمنين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللّهَ لَيُهَوِّنُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى المُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ أَخَفَّ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ صَلاَّهَا فِي الدُّنْيَا ‏"‏ وعضُّ اليدين هو فعل النادم؛ قال ابن عباس وجماعةٌ من المفسرين‏:‏ الظالم في هذه الآية عُقْبَةُ بْنُ أبي معِيطٍ؛ وذلك أَنَّهُ كان أسلم أو جَنَحَ إلى الإسلام، وكان أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يومَ أُحُدٍ خليلاً لعُقْبَةَ، فنهاه عن الإسلام، فَقَبِلَ نَهْيَهُ؛ فنزلت الآية فيهما، فالظالم‏:‏ عقبة، و‏{‏فُلاَناً‏}‏ أُبيُّ قال السُّهَيْلِيُّ‏:‏ وَكَنَّى سبحانه عن هذا الظالم ولم يُصَرَّحْ باسمه؛ ليكون هذا الوعيدُ غيرَ مخصوصٍ به ولا مقصور عليه؛ بل يتناول جميعَ مَنْ فعل مثل فعله، انتهى‏.‏

وقال مجاهد وغيره‏:‏ ‏{‏الظالم‏}‏ عام، اسم جنس، وهذا هو الظاهر، وأَنَّ مقصد الآية تعظيمُ يوم القيامة وذِكْرُ هوله بأَنَّهُ يوم تندم فيه الظَّلَمَةُ، وتتمنَّى أَنَّها لم تُطِعْ في دنياها إخِلاَّءَهَا، والسبيل المُتَمَنَّاةُ‏:‏ هي طريق الآخرة، وفي هذه الآية لكل ذي نُهْيَةٍ تنبيهٌ على تجنب قرين السوء، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة، و‏{‏الذكر‏}‏‏:‏ ما ذَكر الإنسانَ أمر آخرته من قرآن، أو موعظة ونحوه‏.‏

‏{‏وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولاً‏}‏ يحتمل‏:‏ أَنْ يكونَ من قول الظالم، ويحتمل‏:‏ أنْ يكون ابتداءَ إخبارٍ من اللّه عز وجل على وجه التحذير من الشيطان الذي بَلَّغهم ذلك المبلغ

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 34‏]‏

‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ‏(‏30‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ‏(‏33‏)‏ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الرسول‏}‏ حكاية عن قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الدنيا وتشكِيْهِ ما يَلْقَى من قومه؛ هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة‏:‏ هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة، و‏{‏مَهْجُوراً‏}‏ يحتمل‏:‏ أَنْ يريدَ مُبْعَداً مقصيّاً من الهَجْر بفتح الهاء، وهذا قول ابن زيد، ويُحْتَمَلُ‏:‏ أَنْ يريدَ مقولاً فيه الهُجْرُ بضم الهاء؛ إشارة إلى قولهم‏:‏ شعر وكهانة ونحوه؛ قاله مجاهد‏.‏

قال * ع *‏:‏ وقول ابن زيد مُنَبِّهٌ للمؤمن على مُلازمة المُصْحَفِ، وأَلاَّ يكون الغبارُ يعلوه في البيوت، ويشتغلَ بغيره، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَنْ عَلَّقَ مُصْحَفاً، ولَمْ يَتَعَاهَدْهُ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُتَعَلِّقاً بِهِ يَقُولُ‏:‏ يَا ربِّ، هَذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً؛ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ» وفي حلية النووي قال‏:‏ وروينا في سنن أبي داود ومُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عن سعد بن عُبَادَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال‏:‏ «لمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ، لَقِيَ اللّه تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمَ»، وروينا في كتاب أبي دَاودَ والترمذيِّ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى القَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ، وعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْباً أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَو آيَةٍ أُوتِيها رَجُلٌ ثم نَسِيَهَا» تكلم الترمذي فيه، انتهى، ثم سَلاَّه تعالى عن فعل قومه بقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين‏}‏ أي‏:‏ فاصبر كما صبروا؛ قاله ابن عباس، ثم وعد تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً‏}‏ والباء في ‏{‏بِرَبِّكَ‏}‏‏:‏ للتأكيد دَالَّةٌ على الأمر؛ إذ المعنى‏:‏ اكتفِ بربك‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ قالوا في بعض معارضاتهم‏:‏ لو كان من عند اللّه لنزل جُمْلَةً كالتوراة والإنجيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ يحتمل أَنْ يكونَ من قول الكُفَّارِ؛ إشارةً إلى التوراة والإنجيل، ويحتمل أَنْ يكون من الكلام المستأنف وهو أولى، ومعناه‏:‏ كما نُزِّل أردناه، فالإشارة إلى نزوله مُتَفَرِّقاً، والترتيل‏:‏ التفريق بين الشيء المتتابع، ومنه تَرْتِيلُ القرآن، وجعل اللّه تعالى السبب في نزوله متفرقاً تثبيتَ قلب نَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم وأَنْ ينزله في النوازل والحوادث التي قد قَدَّرَهَا وَقَدَّرَ نزوله فيها، وأَنَّ هؤلاءِ الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم إلاَّ جاء القرآن بالحَقِّ في ذلك والجلية، ثم هو أحسن تفسيراً، وأفصح بياناً، وباقي الآية بَيِّنٌ تقدم تفسير نظيره، والجمهور‏:‏ أَنَّ هذا المشي على الوجوه حقيقة، وقد جاء كذلك في الحديث، وقد تقدَّمَ ولفظ البخاريِّ عن أنس رضي اللّه عنه‏:‏ أَنَّ رَجُلاَّ قَالَ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللّه، أَيُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏؟‏ قال‏:‏ «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ في الدُّنْيَا قَادِراً عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» قال قتادة‏:‏ بلى وَعِزَّةِ رَبِّنَا، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 44‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ‏(‏35‏)‏ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ‏(‏36‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ‏(‏38‏)‏ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ‏(‏40‏)‏ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ‏(‏41‏)‏ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات تنبيه لكفار قريشٍ، وَتَوَعَّدٌ أَنْ يَحِلَّ بِهِم ما حَلَّ بهؤلاء المُعَذَّبين؛ قال قتادة‏:‏ أصحاب الرَّسِّ، وأَصحابُ الأيْكَةِ‏:‏ قومانِ أُرْسِلَ إليهِما شُعَيْبٌ، وقاله وهب بن منبه، وقيل غير هذا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُرُوناً بَيْنَ ذلك كَثِيراً‏}‏ إبهام لاَ يَعْلَمُ حقيقتَه إلاَّ اللّهُ عز وجل، والتَّبَارُ‏:‏ الهلاك، والقرية التي أُمْطِرَت مَطَرَ السوء هي‏:‏ «سدُوم» مدينة قوم لوط، وما لم نذكر تفسيره قد تقدم بيانه للفاهم المتيقظ، ثم ذكر سبحانه أَنَّهُم إذا رأوا محمداً عليه السلام قالوا على جهة الاستهزاء‏:‏ ‏{‏أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً‏}‏‏.‏

قال * ص *‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّخِذُونَكَ‏}‏ إنْ نافية، جوابُ «إذا»، انتهى، ثم أنس اللّه تعالى نَبِيَّه بقوله‏:‏ ‏{‏أَرَءَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية المعنى‏:‏ لا تتأسف عليهم ومعنى ‏{‏اتخذ إلهه هواه‏}‏ أي‏:‏ جعل هواه مطاع فصار كالإله ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام‏}‏ أي‏:‏ بل هم كالأنعام‏.‏

قلت‏:‏ وعبارة الواحدي‏:‏ ‏{‏إِن هُم‏}‏ أي‏:‏ ما هم إلاَّ كالأنعام، انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 52‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ‏(‏47‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ‏(‏48‏)‏ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏(‏49‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏50‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ‏(‏51‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ مَدُّ الظل بإطلاقٍ‏:‏ هو ما بين أول الإسفار إلى بُزُوغ الشمس، ومن بعد مغيبها أيضاً وقتاً يسيراً؛ فإنَّ في هذين الوقتين على الأَرض كُلِّها ظِلاًّ ممدوداً‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً‏}‏ أي‏:‏ ثابتاً غيرَ متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشمس ونسخها إيَّاه، وطردها له من موضع إلى موضع؛ دليلاً عليه مُبَيِّناً لوجوده ولوجه العبرة فيه، وحكى الطبريّ أَنَّه‏:‏ لولا الشمسُ لم يُعْلَمْ أَنَّ الظل شيء، إذِ الأشياء إنَّما تُعْرَفُ بأضدادها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ يحتمل أَنْ يريد، لطيفاً، أي‏:‏ شيئاً بعدَ شيءٍ، لا في مرة واحدة‏.‏

قال الداوُوديُّ‏:‏ قال الضَّحَّاكُ‏:‏ ‏{‏قَبْضاً يَسِيراً‏}‏ يعني‏:‏ الظِّلَّ إذا علته الشمسُ، انتهى‏.‏ قال الطبريُّ‏:‏ ووصف الليل باللباس من حيث يستُر الأَشياء ويغشاها، والسبات‏:‏ ضرب من الإِغماء يعترى اليقظانَ مرضاً، فشُبِّهَ النوم به، والنشور هنا‏:‏ الإحياء، شبَّهَ اليقظةَ به، ويحتمل أَنْ يريد بالنشور وقتَ انتشار وتفرق، و‏{‏أناسِيَّ‏}‏‏:‏ قيل هو جمع إنسان، والياء المُشَدَّدَةُ بدل من النون في الواحد، قاله سيبويه، وقال المُبَرِّدُ‏:‏ هو جمع إنسي، والضمير في ‏{‏صَرَّفْنَاهُ‏}‏ عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر، ويَعْضُدُ ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 57‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏53‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ‏(‏54‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏56‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ مَرَجَ معناه‏:‏ خَلَطَ‏.‏

قال * ع *‏:‏ والذي أقول به في معنى هذه الآية‏:‏ أَنَّ المقصود بها التنبيهُ على قدرة اللّه تعالى في أنَّ بَثَّ في الأرض مياهاً عذبة كثيرة، جعلها خلال الأُجَاجِ، وجعل الأُجَاجَ خلالها، كما هو مَرْئِيٌّ تجدُ البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضَفَّتِهِ، وتجد الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأُجاج، وكُلٌّ باقٍ على حاله ومطعمه؛ فالبحران‏:‏ يراد بهما جميعُ الماء العذب، وجميع الماء الأجاجُ، والبرزخ والحجر هو ما بين البحرين من الأرض واليبس؛ قاله الحسن،، والفرات‏:‏ الصافي اللذيذُ المطعم، والأُجَاجُ أبلغ ما يكون من الملوحة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية تعديدُ نِعَمٍ على الناس، والنسب‏:‏ هو أنْ يجتمع إنسان مع آخر في أب أوأمٍّ، والصِّهْرُ هوَ تَوَاشُجِ المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار يقع عاماً لذلك كله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً‏}‏ أي‏:‏ مُعِيناً؛ يعينون على رَبِّهم غيرهم من الكفرة بطاعتهم للشيطان، وهذا تأويل مجاهد وغيره، والكافر هنا اسم جنس، وقال ابن عباس‏:‏ هو أبو جهل‏.‏

قال * ع *‏:‏ فيُشْبِهُ أَنَّ أبا جهل هو سبب الآية، ولكنَّ اللفظ عام للجنس كله‏.‏

قلت‏:‏ والمعنى‏:‏ على دِينِ رَبِّه ظهيراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً‏}‏ الظاهر فيه‏:‏ أنَّه استثناءٌ مُنْقَطِعٌ، والمعنى‏:‏ لكن مسؤولي ومطلوبي مَنْ شاء أَنْ يهتدي ويؤمن، ويتخذ إلى رحمة ربه طريقَ نجاة‏.‏